من آخر ما نزل من القرآن الكريم قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام} (المائدة:3)، فهل كان الدين ناقصاً في أول أمره، ثم أتمه الله سبحانه بعدُ؟ وما هو المراد من إكمال الدين في الآية الكريمة ؟ .
ذكر المفسرون أن هذه الآية نزلت يوم عرفة، فلم ينزل بعدها حلال ولا حرام. ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات. قالت أسماء بنت عميس: حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الحجة، فبينما نحن نسير، إذ تجلى له جبريل صلى الله عليه وسلم على الراحلة، فلم تطق الراحلة من ثقل ما عليها من القرآن، فبركت، فأتيته، فسجيت عليه برداء كان عليَّ.
وروى البخاري ومسلم أن رجلاً من اليهود جاء إلى عمر بن الخطاب رضي
الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين! إنكم تقرؤون آية في كتابكم، لو علينا
معشر اليهود نزلت، لاتخذنا ذلك اليوم عيداً. قال: وأيُّ آية؟ قال: قوله: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي}، فقال عمر:
والله إني لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم،
والساعة التي نزلت فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، نزلت عشية عرفة
في يوم جمعة.
وقد روى الطبري عن هارون بن عنترة عن أبيه، قال: لما نزلت: {اليوم أكملت لكم دينكم}، وذلك يوم الحج الأكبر، بكى عمر
رضي الله عنهما، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك؟ قال: أبكاني
أنا كنا في زيادة من ديننا، فأما إذ كَمُل، فإنه لم يكمل شيء إلا نقص!
فقال: صدقت.
وروى الطبري عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم}،
وهو الإسلام. قال: أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، أنه قد
أكمل لهم الإيمان، فلا يحتاجون إلى زيادة أبداً، وقد أتمه الله عز ذكره،
فلا ينقصه أبداً، وقد رضيه الله، فلا يسخطه أبداً.
وفي الآية سؤال، وهو أن قوله سبحانه: {اليوم أكملت لكم دينكم}
يقتضي أن (الدين) كان ناقصاً قبل ذلك، وذلك يوجب أن (الدين) الذي كان صلى
الله عليه وسلم مواظباً عليه أكثر عمره كان ناقصاً، وأنه إنما وجد (الدين)
الكامل في آخر عمره مدة قليلة؟
فالجواب أن يقال له: لِمَ قلت إن كل نقص فهو عيب، وما دليلك عليه؟ ثم يقال
له: أرأيت نقصان الشهر، هل يكون عيباً؟ ونقصان صلاة المسافر، أهو عيب لها؟
ونقصان العمر الذي أراده الله بقوله: {وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب}
(فاطر:11)، أهو عيب له؟ وقد بلغ الله بالظهر والعصر والعشاء أربع ركعات؛
فلو قيل عندما فرضها أربعاً: أكملها، لكان الكلام صحيحاً، ولا يرِدُ على
ذلك أنها كانت حين كانت ركعتين ناقصة نقص قصور وخلل؛ ولو قيل: كانت ناقصة
عما عند الله أنه ضامه إليها وزائدة عليها، لكان ذلك صحيحاً أيضاً، فما
أنكرتَ من نقصان أجزاء الدين في الشرع قبل أن تلحق به الأجزاء الباقية في
علم الله تعالى ليس بشين ولا عيب.
وقريب من هذا الجواب ما أجاب به بعض أهل العلم، فقال: إن (الدين) ما كان
ناقصاً البتة، بل كان أبداً كاملاً، يعني كانت الشرائع النازلة من عند الله
في كل وقت كافية في ذلك الوقت، إلا أنه تعالى كان عالماً في أول وقت
البعثة، بأن ما هو كامل في هذا اليوم ليس بكامل في الغد، ولا صلاح فيه، فلا
جرم كان ينسخ بعد الثبوت، وكان يزيد بعد العدم، وأما في آخر زمان البعثة،
فأنزل الله شريعة كاملة، وحكم ببقائها إلى يوم القيامة، فالشرع أبداً كان
كاملاً، إلا أن الأول كمال إلى زمان مخصوص، والثاني كمال إلى يوم القيامة.
وهذا اختيار الرازي.
وجواب ثالث يشدُّ أزر سابِقَيْه، ذكره ابن عاشور،
قال: إكمال (الدين) هو إكمال البيان المراد لله تعالى، الذي اقتضت الحكمة
تنجيمه وتفريقه، فكان بعد نزول أحكام الاعتقاد، وتفاصيل أحكام قواعد
الإسلام، وشرائع المعاملات، وأصول النظام الإسلامي، كان بعد ذلك كله قد تم
البيان المراد لله تعالى في قوله: {ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء} (النحل:89)، وقوله: {لتبين للناس ما نزل إليهم}
(النحل:44)، بحيث صار مجموع التشريع كافياً في هدي الأمة في عبادتها،
ومعاملتها، وسياستها، في سائر عصورها، بحسب ما تدعو إليه حاجاتها، فقد كان
(الدين) وافياً في كل وقت بما يحتاجه المسلمون. ولكن ابتدأت أحوال جماعة
المسلمين بسيطة، ثم اتسعت جامعتهم، فكان (الدين) يكفيهم لبيان الحاجات في
أحوالهم بمقدار اتساعها؛ إذ كان تعليم (الدين) بطريق التدريج ليتمكن
رسوخُه، حتى استكملت جامعة المسلمين كل شؤون الجوامع الكبرى، وصاروا أمة
كأكمل ما تكون أمة، فكمل من بيان (الدين) ما به الوفاء بحاجاتهم كلّها،
فذلك معنى إكمال (الدين) لهم يومئذٍ. وليس في ذلك ما يشعر بأن (الدين) كان
ناقصاً، ولكن أحوال الأمة في الأمَمِيَّة غير مستوفاة، فلما توفرت، كمل
(الدين) لهم، فلا إشكال على الآية.
وعلى الجملة، فإن المراد بـ (إتمام الدين): بلوغه أقصى الحد الذي كان له
عنده سبحانه فيما قضاه وقدره، وذلك لا يوجب أن يكون ما قبل ذلك ناقصاً
نقصان عيب، لكنه يوصف بنقصان مقيد، فيقال له: إنه كان ناقصاً عما كان عند
الله تعالى أنه ملحقه به، وضامه إليه؛ كالرجل يبلغه الله مائة سنة فيقال:
أكمل الله عمره؛ ولا يجب عن ذلك أن يكون عمره حين كان ابن ستين كان ناقصاً
نقص قصور وخلل.
وعليه، فلم يكن (الدين) في يوم من الأيام غير كاف لأتباعه؛ لأن (الدين) في
كل يوم، من وقت البعثة، هو عبارة عن المقدار الذي شرعه الله للمسلمين يوماً
فيوماً، فمن كان من المسلمين آخذاً بكل ما أنزل إليهم في وقت من الأوقات،
فهو متمسك بالإسلام، فإكمال (الدين) يوم نزول الآية إكمال له فيما يُراد
به، وهو قبل ذلك كامل فيما يراد من أتباعه الحاضرين.
وتأسيساً على ما تقدم: لا يصح أن يكون المراد من (الدين) في الآية القرآن؛
لأن آيات كثيرة نزلت بعد هذه الآية، وحسبك من ذلك بقية سورة المائدة.
وقوله سبحانه: {وأتممت عليكم نعمتي}، قال الطبري:
يعني جل ثناؤه بذلك: وأتممت نعمتي، أيها المؤمنون، بإظهاركم على عدوي
وعدوكم من المشركين، ونفيي إياهم عن بلادكم، وقطعي طمعهم من رجوعكم
وعَوْدِكم إلى ما كنتم عليه من الشرك. وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كان المشركون والمسلمون يحجون جميعاً، فلما نزلت {براءة} (التوبة:1)، فنفى المشركين عن البيت، وحج المسلمون، لا يشاركهم في البيت الحرام أحد من المشركين، فكان ذلك من تمام النعمة.
وقال ابن عاشور: وإتمام هذه النعمة هو زوال ما
كانوا يلقونه من الخوف، فمكنهم من الحج آمِّين، مؤمنين، خالصين، وطوع
إليهم أعداءهم يوم حجة الوداع، وقد كانوا من قبل في نعمة فأتمها عليهم،
فلذلك قيَّد إتمام النعمة بذلك اليوم؛ لأنه زمان ظهور هذا الإتمام؛ إذ
الآية نازلة يوم حجة الوداع على أصح الأقوال.
وأما قوله تعالى: {ورضيت لكم الإسلام دينا}، فقد قال الطبري: يعني بذلك سبحانه: ورضيت لكم الاستسلام لأمري، والانقياد لطاعتي، على ما شرعت لكم من حدوده وفرائضه ومعالمه {دينا}، يعني بذلك: طاعة منكم لي. وقال القرطبي:
أي: أعلمتكم برضاي به لكم ديناً؛ فإنه تعالى لم يزل راضياً بالإسلام لنا
ديناً؛ فلا يكون لاختصاص (الرضا) بذلك اليوم فائدة، إن حملناه على ظاهره.
وقال الشيخ السعدي: {ورضيت لكم الإسلام دينا}، اخترته، واصطفيته لكم ديناً، كما ارتضيتكم له، فقوموا به شكراً لربكم، واحمدوا الذي مَنَّ عليكم بأفضل الأديان وأشرفها وأكملها.
وقد يراد بقوله سبحانه: {ورضيت لكم الإسلام دينا}، أي: رضيت إسلامكم الذي أنتم عليه {اليوم} ديناً باقياً بكماله، لا أنسخ منه شيئاً. قال ابن عاشور: يدل قوله: {ورضيت لكم الإسلام دينا}
على أن هذا (الدين) دين أبدي؛ لأن الشيء المختار المدخر، لا يكون إلا
أَنْفَسَ ما أُظهر من الأديان، والأَنْفَسُ لا يبطله شيء؛ إذ ليس بعده
غاية، فتكون الآية مشيرة إلى أن نسخ الأحكام قد انتهى.
ثم إن الشيخ السعدي قال: كل متكلف يزعم أنه لا
بد للناس في معرفة عقائدهم وأحكامهم إلى علوم غير علم الكتاب والسنة، من
علم الكلام وغيره، فهو جاهل، مبطل في دعواه، قد زعم أن الدين لا يكمل إلا
بما قاله ودعا إليه، وهذا من أعظم الظلم والتجهيل لله ولرسوله.
وقد قال أصحاب الآثار: إنه لما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه
وسلم، لم يعمر بعد نزولها إلا أحد وثمانين يوماً، أو اثنين وثمانين يوماً،
ولم يحصل في الشريعة بعدها زيادة، ولا نسخ، ولا تبديل البتة، وكان ذلك
جارياً مجرى إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن قرب وفاته، وذلك إخبار عن
الغيب فيكون معجزاً. ومما يؤكد ذلك ما روي أنه صلى الله عليه وسلم لما قرأ
هذه الآية على الصحابة فرحوا جداً، وأظهروا السرور العظيم، إلا أبا بكر رضي
الله عنه، فإنه بكى، فسئل عن ذلك، فقال: هذه الآية تدل على قرب وفاة رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فإنه ليس بعد (الكمال) إلا الزوال، فكان ذلك
دليلاً على كمال علم الصديق، حيث وقف من هذه الآية على ما لم يقف عليه
غيره.
http://www.islamweb.net/media/index.php?page=article&lang=A&id=172169
0 التعليقات:
Enregistrer un commentaire